فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)}
قسَم بِمخلوقات عظيمة دالّةٍ على عظيم علم الله تعالى وقدرته.
والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر، وفي تطويل القَسَم تشويقُ السامع لتلقي المقسم عليه.
فيجوز أن يَكون المراد بموصوفات هذه الصفات نوعاً واحداً، ويجوز أن يكون نوعين أو أكثر من المخلوقات العظيمة.
ومشى صاحب (الكشاف) على أن المقسم بها كلهم ملائكة.
ولم يختلف أهل التأويل أن {المُلْقِيات ذِكراً} للملائكة.
وقال الجمهور: العاصفات: الرياح ولم يحك الطبري فيه مخالفاً.
وقال القرطبي: قيل العاصفات: الملائكة.
و{الفارقات} لم يحك الطبري إلاّ أنهم الملائكةُ أو الرسلُ.
وحكى القرطبي عن مجاهد: أنها الرياح.
وفيما عدا هذه من الصفات اختَلَف المتأوّلون فمنهم من حملوها على أنها الملائكة ومنهم من حمل على أنها الرياح.
ف {المرسَلات} قال ابن مسعود وأبو هريرة ومقاتل وأبو صالح والكلبي ومسروق: هي الملائكة.
وقال ابن عباس وقتادة: هي الرياح، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضاً ولعله يجيز التأويلين وهو الأوفق بعطفها بالفاء.
و{الناشرات} قال ابن عباس والضحاك وأبو صالح: الملائكة.
وقال ابن مسعود ومجاهد: الرياح وهو عن أبي صالح أيضاً.
ويتحصل من هذا أن الله أقسَم بجنسين من مخلوقاته العظيمة مثل قوله: {والسماءِ ذات البروج واليوم الموعود} [البروج: 1، 2]، ومثله تكَرَّر في القرآن.
ويتجه في توزيعها أن الصفات التي عطفت بالفاء تابعة لجنس مَا عطفت هي عليه، والتي عطفت بالواو يترجح أنها صفاتُ جنس آخر.
فالأرجح أن المرسلات والعاصفات صفتان للرياح، وأن ما بعدها صفات للملائكة، والواو الثانية للعطف وليست حرف قَسَم.
ومناسبة الجمع بين هذين الجنسين في القسم أن كليهما من الموجودات العلوية لأن الأصل في العطف بالواو أن يكون المعطوف بها ذاتاً غير المعطوف عليه.
وما جاء بخلاف ذلك فهو خلاف الأصل مثل قول الشاعر أنشده الفراء.
إلى الملك القِرْم وابن الهُمام ** وليثثِ الكتيبةِ في المزْدَحَم

أراد صفات ممدوح واحد.
ولنتكلم على هذه الصفات:
فأما {المرسلات} فإذا جعل وصفاً للملائكة كان المعنيُّ بهم المرسلين إلى الرسل والأنبياء مثل جبريل في إرساله بالوحي، وغيره من الملائكة الذين يبعثهم الله إلى بعض أنبيائه بتعليم أو خبر أو نصر كما في قوله تعالى عن زكرياء: {فنادَتْه الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} الآية [آل عمران: 39]، أو {المرسلات} بتنفيذ أمر الله في العذاب مثل المرسلين إلى قوم لوط، و{عُرْفاً} حال مفيدة معنى التشبيه البليغ، أي مثل عرف الفرس في تتابع الشعر بعضه ببعض، يقال: هم كعرف الضبع، إذا تألبوا، ويقال: جاءوا عرفاً واحداً.
وهو صالح لوصف الملائكة ولوصف الريح.
وفسر {عُرفاً} بأنه اسمٌ، أي الشعرَ الذي على رقبة الفرس ونصبه على الحال على طريقة التشبيه البليغ، أي كالعُرف في تتابع البعض لبعض، وفسر بأنه مصدر بمعنى المفعول، أي معرُوف (ضد المنكَر)، وأن نصبه على المفعول لأجله، أي لأجل الإِرشاد والصلاح.
{فالعاصفات} تفريع على {المرسلات}، أي ترسل فتعصف، والعصف يطلق على قوة هبوب الريح فإن أريد بالمرسلات وصف الرياح فالعصف حقيقة، وإن أريد بالمرسلات وصفُ الملائكة فالعصف تشبيه لنزولهم في السرعة بشدة الريح وذلك في المبادرة في سرعة الوصول بتنفيذ ما أمروا به.
و{عَصْفاً} مؤكد للوصف تأكيداً لتحقيق الوصف، إذ لا داعي لإِرادة رفع احتمال المجاز.
والنشر: حقيقته ضد الطي ويكثر استعماله مجازاً في الإِظهار والإِيضاح وفي الإِخراج.
ف {الناشرات} إذا جعل وصفاً للملائكة جاز أن يكون نشرَهم الوحي، أي تكرير نزولهم لذلك، وأن يكون النشر كناية عن الوضوح، أي بالشرائع البينة.
وإذا جعل وصفاً للرياح فهو نشر السحاب في الأجواء فيكون عطفه بالواو دون الفاء لتنبيه على أنه معطوف على {المرسلات} لا على {العاصفات} لأن العصف حالة مضرة والنشر حالة نفع.
والقول في تأكيد {نشراً} وتنوينه كالقوللِ في {عَصْفاً}.
والفَرْق: التمييز بين الأشياء، فإذا كان وصفاً للملائكة فهو صالح للفرق الحقيقي مثل تمييز أهللِ الجنة عن أهل النار يوم الحساب، وتمييز الأمم المعذبة في الدنيا عن الذين نجاهم الله من العذاب، مثل قوم نوح عن نوح، وعادٍ عن هود، وقوممِ لوط عن لوط وأهله عدا امرأته، وصالح للفرق المجازي، وهو أنهم يأتون بالوحي الذي يفرق بين الحق والباطل، وبين الإِيمان والكفر.
وإنْ جُعل وصفاً للرياح فهو من آثار النشر، أي فَرقُها جماعات السحب على البلاد.
ولتفرع الفرق بمعنييه عن النشر بمعانيه عطف {الفارقات} على {الناشرات} بالفاء.
وأكد بالمفعول المطلق كما أكد مَا قبله بقوله: {عصفاً} و{نشراً}، وتنوينه كذلك.
والملقيات: الملائكة الذين يبلغون الوحي وهو الذِكْر.
والإِلقاء مستعار لتبليغ الذكر من العالم العلوي إلى أهل الأرض بتشبيهه بإلقاء شيء من اليد إلى الأرض.
وإلقاء الذكر تبليغ المواعظ إلى الرسل ليبلغوها إلى الناس وهذا الإِلقاء متفرع على الفرق لأنهم يخصّون كل ذكر بمن هو محتاج إليه، فذكر الكفار بالتهديد والوعيد بالعذاب، وذكر المؤمنين بالثناء والوعد بالنعيم.
وهذا معنى {عُذْراً أوْ نُذُراً}.
فالعُذر: الإِعلام بقبول إيمان المؤمنين بعد الكفر، وتوبةِ التائبين بعد الذنب.
والنّذُر: اسم مصدر أنذر، إذا حَذر.
و{عُذراً} قرأه الجمهور بسكون الذال، وقرأه رَوْح عن يعقوب بضمها على الإِتباع لحركة العين.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {نُذُراً} بضم الذال وهو الغالب فيه.
وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلفٌ بإسكان الذال على الوجهين المذكورين في {عُذراً}، وعلى كلتا القراءتين فهو اسم مصدر بمعنى الإِنذار.
وانتصب {عذراً أو نذراً} على بدل الاشتمال من {ذِكْراً} و{أو} في قوله: {أو نذراً} للتقسيم.
وجملة {إن ما توعدون لواقع} جواب القسم وزيدت تأكيداً بـ {أنَّ} لتقوية تحقيق وقوع الجواب.
و{إنَّما} كلمتان هما (إنَّ) التي هي حرف تأكيد و(ما) الموصولة وليست هي (إِنَّما) التي هي أداة حصر، والتي (ما) فيها زائدة.
وقد كتبت هذه متصلة (إِنَّ) بـ (ما) لأنهم لم يكونوا يفرقون في الرسم بين الحالتين، والرسم اصطلاح، ورسم المصحف سُنة في المصاحف ونحن نكتبها مفصولة في التفسير وغيره.
و{ما توعدون}: هو البعث للجزاء وهم يعلمون الصلة فلذلك جيء في التعبير عنه بالموصولية.
والخطاب للمشركين، أي ما تَوعَّدكم الله به من العقاب بعد البعث واقع لا محالة وإن شككتم فيه أو نفيتموه.
والواقع: الثابتُ.
وأصل الواقع الساقط على الأرض فاستعير للشيء المحقق تشبيهاً بالمستقر. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصِيرة في نشر:
نَشَر الثَّوبَ والسَّحابَ والصحيفَةَ والنِّعمة والحديث: بَسَطها، قال تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}.
وقوله: {والنَّاشِرَاتِ نَشْراً} أَي الملائكة التي تَنْشُر الرِّياحَ، أَو الرّياحُ التي تَنْشُر السَّحابَ.
ويقال في جمع الناشر: نُشُرٌ.
وقرئ: {نُشُراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} فيكون كقوله: {والناشِرات}.
ونَشَر المَيِّتُ يَنْشُر نُشوراً، أَي عاش بعد الموت قال الأَعشَى:
حَتَّى يقول النَّاسُ ممّا أَوْا ** يا عَجَباً للمَيِّت النَّاشرِ

ومنه يومُ النُّشور، قال تعالى: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}.
وأَنْشَرَ الله المَيِّتَ فنَشَرَ.
وقيل: نَشْرُ الله المَيْتَ من نَشْرِ الثَوْب، وأَنْشرَه: أَحْيَاهُ، ومنه قراءة ابن عبّاس: {كيف نُنْشِرُها} قال الفرّاءُ: ومن قرأ نَنْشُرها وهى قراءة الحَسَن فكأَنَّه ذهب إِلى النشر والطَّىّ، قال: والوجه أَن يقول أَنْشَرَهم الله فَنَشَرُوا، وأَنشد الأَصمعىّ لأَبى ذُؤَيب الهُذَلّى:
لو كانَ مدْحَةُ حىٍّ أَنْشَرَت أَحداً ** أَحْيَا أُبوّتَك الشُمَّ الأَماديحُ

ونَشَر الخشبةَ بالمِنْشار.
وله نَشْرٌ طَيِّبٌ، وهو ما انْتَشَر من رائِحته، قال المرقِّش:
النَّشْرُ مِسْكٌ والوُجُوهُ دَنا ** نيرُ وَأَطْرافُ الأَكُفِّ عَنَمْ

ونَشَرْتُ الخَبر أَنْشُره وأَنْشِرُه: أَذَعْتُه. وصُحُفٌ مُنَشَّرة. شُدِّدت للكثرة. ونَشَرْتُ عن العليل نَشْراً، ونَشَّرت عنه تَنِشيراً: إِذا رَقَيْتَه بالنُّشْرة؛ كأَنَّك تفرّق عنه العِلَّة.
وفى الحديث: «فلعلَّ طَبّاً أَصابه، أَي سِحْرا، ثم نَشَّرَه بقُلْ أَعوذُ بربّ الناس» سَمَّوا السحْرَ طَبّاً تفاؤلاً بالبراءِ. اهـ.

.تفسير الآيات (8- 19):

قوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: أقسم تعالى بالملائكة المتتابعين في الإرسال، والرياح المسخرة، وولايته بالمطر والملائكة الفارقة بمائة بين الحق والباطل، والملقيات الذكر بالوحي إلى الأنبياء إعذاراً من الله وإنذاراً، أقسم تعالى بما ذكر من مخلوقاته على صدق الموعود به في قوله: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً} [الإنسان: 4] الآيات وقوله: {إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً} [الإنسان: 10] وقوله: {وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً} [الإنسان: 12] الآيات إلى {وكان سعيكم مشكوراً} [الإنسان: 22] وقوله: {ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً} [الإنسان: 27] وقوله: {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً} [الإنسان: 31] ولو لم يتقدم إلا هذا الوعد والوعيد المختتم به السورة لطابقه افتتاح الأخرى قسماً عليه أشد المطابقة، فكيف وسورة {هل أتى على الإنسان} [الإنسان: 1] مواعد أخراوية وإخبارات جزائية، فأقسم سبحانه وتعالى على صحة الوقوع، وهو المتعالى الحق وكلامه الصدق- انتهى.
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون استهزاء: متى هو؟ وكان وقته مما استأثر الله بعلمه لأن إخفاءه عن كل أحد أوقع في النفوس وأهيب عند القعول، سبب عن ذلك قوله ذاكراً ما لا تحتمله العقول لتزداد الهيبة ويتعاظم الخوف معبراً بأداة التحقق: {فإذا النجوم} أي على كثرتها {طمست} أي أذهب ضوءها بأيسر أمر فاستوت مع بقية السماء، فدل طمسها على أن لفاعله غاية القدرة، وأعاد الظرف تأكيداً للمعنى زيادة في التخويف فقال: {وإذا السماء} أي على عظمتها {فرجت} أي انشقت فخربت السقوف وما بها من القناديل بأسهل أمر {وإذا الجبال} أي على صلابتها {نسفت} أي ذهب بها كلها بسرعة ففرقتها الرياح، فكانت هباء منبثاً فلم يبق لها أثر، وذلك كما ينسف الحب، فزال ثبات الأرض بالأسباب التي هي الرواسي، لأن تلك الدار ليست بدار أسباب.
ولما ذكر تغيير السماء والأرض، ذكر ما فعل ذلك لأجله فقال: {وإذا الرسل} أي الذي أنذروا الناس ذلك اليوم فكذبوهم {أقتت} أي بلّغها الذي لا قدير سواه بأيسر أمر ميقاتَها الذي كانت تنتظره، وهو وقت قطع الأسباب وإيقاع الرحمة والثواب للأحباب والنقمة والعقاب للأعداء بشهادتهم بعد جمعهم على الأمم بما كان منهم من الجواب، وحذف العامل في (إذا) تهويلاً له لتذهب النفس فيه كل مذهب، فيمكن أن يكون تقديره: وقع ما توعدون فرأيتم من هذا الوعيد ما لا يحتمل ولا يثبت لوصفه العقول، وعلى ذلك دل قوله ملقناً لما ينبغي أن يقال: وهو {لأيّ يوم} أي عظيم {أجلت} أي وقع تأجيلها به، بناه للمفعول لأن المقصود تحقيق الأجل لا كونه من معين، وتنبيهاً على أن المعين له معلوم أنه الله الذي لا يقدر عليه سواه، ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله مبدلاً من {لأي يوم}: {ليوم الفصل} أي الذي إذا أطلق ذلك لم ينصرف إلا إليه لأنه لا يترك فيه شيئاً إلا وقع الفصل فيه بين جميع الخلق من كل جليل وحقير، ثم هوله وعظمه بقوله: {وما أدراك} أي وأي شيء أعلمك وإن اجتهدت في التعرف، ثم زاده تهويلاً بقوله: {ما يوم الفصل} أي إنه أمر يستحق أن يسأل عنه ويعظم، وكل ما عظم بشيء فهو أعظم منه، ولا يقدر أحد من الخلق على الوصول إلى علمه لأنه لا مثل له يقال عليه.
ولما هول أمره ذكر ما يقع فيه من الشدة على وجه الإجمال فقال: {ويل} أي هلاك عظيم جدًّا {يومئذ} أي إذ يكون يوم الفصل {للمكذبين} أي بالمرسلات التي أخبرت بذلك اليوم وغيره من أمر الله، والويل في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعله، عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات معناه، وقد كررت هذه الجملة بعدة المقسم به وما ذكر هنا مما يكون في يوم الفصل من الطمس وما بعده وهو تسعة أشياء، وزادت واحدة فتكون كل جملة بواحدة من المذكورات، والعاشر للتأكيد دلالة على أن لهم من الويل ما لا ينتهي كما أن الواحد لا ينتهي على أنها لو كانت كلها لتأكيد الأول لكان ذلك حسناً، فإن من كذبك في أشياء كان من البلاغة أن تقرره بواحدة منها ثم تقول له عند قيام الدليل (ويل لك) ثم تفعل فيما بعده كله كذلك وتعيد عليه ذلك القول بعينه تأكيداً له وتحقيقاً لوقوع معناه دلالة على أن الغيظ قد بلغ منتهاه والفجور وانقطاع العذر لم يدع موضعاً للتنصل منه والبعد عنه، وذلك في كلام العرب شائع معروف سائغ.
ولما أقسم على وقوع الوعد والوعيد مطلقاً أعم من أن يكون في الدنيا أو في الآخرة لأنه قادر على كل ما يريد بأقسام دلت على القدرة عليه دلالة جلية، أتبعه دلالة أجلى منها بما يشاهد من خراب العالم النفسي فقال منكراً على من يكذب به تكذيبهم مع ما كان منه سبحانه إلى من كذب الرسل ومن آمن بهم: {ألم نهلك} أي بما لنا من العظمة {الأولين} أي إهلاك عذاب وغضب بتكذيبهم الرسل عليهم الصلاة والسلام كقوم نوح ومن بعدهم أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن، لم ندع منهم أحداً.
ولما كان إهلاك من في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إن لم ينقص عن إهلاك الأولين لم يزد، وكان جواب هذا التقدير: بلى قد أهلكتهم، قال عاطفاً على هذا الذي أرشد السياق إليه إرشاداً ظاهراً جعله كالمنطوق ما تقديره: نعم أهلكناهم {ثم} أي بعد إهلاكنا لهم.
ولما كان الفعل مرفوعا، علمنا أنه ليس معطوفاً على (تهلك) ليكون تقديراً، بل هو إخبار للتهديد تقديره: نحن إن شئنا {نتبعهم الآخرين} أي الذين في زمانك من كفار العرب وغيرهم لتكذيبهم لك أو الذين قربوا من ذلك الزمان كأصحاب الرس وأصحاب الفيل.
ولما هدد من واجه الرسل بالتكذيب تسلية لهم، سلى من قطعوه من أتباعهم مما يجب وصله بهم من المعروف فقال مستأنفاً منبهاً على الوصف الموجب لذلك الإهلاك: {كذلك} أي مثل ذلك الإهلاك {نفعل بالمجرمين} أي جميع الذين يفعلون فعل أولئك الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وهم عريقون في ذلك القطع، وذلك مثبت لنا القدرة على جمعهم ليوم الفصل كما قدرنا على جمعهم لوقت الإجرام وعلى فصلنا في الإهلاك والإنجاء بين مكذبي الأمم ومصدقيهم فلابد من إيجادنا ليوم الفصل: {ويل يومئذ} أي إذ يوجد {للمكذبين} أي بالعاصفات التي أهلكنا بها تلك الأمم تارة بواسطة القلب وإمطار الحجارة وأخرى بواسطة الماء وتارة بالرجفة وتارة بغير واسطة. اهـ.